فصل: تفسير الآيات (28- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (28- 44):

{وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)}.
التفسير:
ينتهى المثل الذي ضربه اللّه سبحانه وتعالى لأصحاب القرية في الآية السابقة على هذه الآيات- ينتهى بهذا التعقيب الذي بدأت به الآيات التي نحن بين يديها الآن، ومن هذا التعقيب يكون المنطلق الذي تنطلق فيه الآيات بعد هذا، فتواجه المشركين الذين استمعوا إلى هذا المثل، وتعرض عليهم مشاهد من قدرة اللّه سبحانه وتعالى، ومن آثار رحمته في خلقه، لعلهم يجدون في هذه المشاهد، ما يفتح قلوبهم وعقولهم إلى اللّه، حتى يؤمنوا، ويلحقوا بركب المؤمنين، قبل أن تفلت من أيديهم تلك الفرصة السانحة، ثم لا يكون منهم إلا الحسرة والندم، ولات ساعة مندم.
قوله تعالى: {وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ}.
هو تعقيب على قوله تعالى على لسان العبد المؤمن: {يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}.
إنهم لن يعلموا شيئا، ولو علموا ما آمنوا.. إنهم لا يؤمنون إلا إذا نزل عليهم ملائكة من السماء، بعد أن رفضوا الرسل، لأنهم بشر، وقالوا {ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}.
واللّه سبحانه لم يرسل إلى قوم ملائكة حتى تتحقق أمنيتهم فيهم، وما كان اللّه مرسلا ملائكة إلى هؤلاء المشركين، الذين كانوا يقولون: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا} [21: الفرقان] ويقولون: {ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [7: الفرقان].
وإذن فليمت هؤلاء المشركون على شركهم، كما مات فرعون وقومه من قبلهم على كفرهم.
وهذا ما يشهر إليه قوله تعالى في الآية التالية:
{إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ}.
إنها صيحة الموت، التي يقضى بها على النّاس، مؤمنهم، وكافرهم.
قوله تعالى: {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.
يمكن أن يكون هذا نداء من الحق سبحانه وتعالى للحسرة، لتقع على الكافرين المكذبين برسل اللّه، وأن تشتمل عليهم، ليذوقوا عذاب الندم، إلى جانب العذاب الجهنمى، نعوذ باللّه منهما.. وهذا ما يشير إليه سبحانه في قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [156: آل عمران].
ويمكن أن يكون ذلك نداء تعجبيّا من الوجود كلّه، لهذه الحسرة التي تقع على الناس، استفظاعا لها، وإشفاقا منها أن تمتد ظلاله الكئيبة إلى كل موجود.
وقوله تعالى: {ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} هو على التقدير الأول، تعليل للحسرة التي ساقها اللّه إلى المكذبين والضالين.. وهو على التقدير الثاني، جواب لسؤال ينطق به لسان الحال، وهو: أية جناية جناها الناس حتى يساق إليهم هذا البلاء العظيم؟ فكان الجواب: {ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.
وفى وصف الناس بأنهم عباد، إشارة إلى أنهم- وهم عباد- لم يرعوا حق العبودية للّه، بل كفروا باللّه، وكذبوا رسله، واستهزءوا بهم.
والمراد بالعباد، هم الناس جميعا على اختلاف أوطانهم، وأزمانهم.
إنهم هكذا دأبهم وقليل منهم من يؤمن باللّه، ويصدّق رسله.. أما الكثرة منهم، فهم على هذا الوصف!.
قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ}.
الخطاب هنا للمشركين. وهو تقرير لتلك الحقيقة التي يشهدونها عيانا، وهى أن الهالكين قبلهم من الأمم السابقة، كثيرون، وقد ذهبوا وذهبت آثارهم، وأنهم لن يرجعوا مرة أخرى إلى هذه الدنيا.. فلم يشتدّ حرص هؤلاء المشركين على دنياهم تلك، التي كل ما فيها باطل وقبض الريح؟ ألا يفكرون في حياة أخرى وراء هذه الحياة، أبقى، وأعظم؟.
قوله تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ}.
{إن} هنا نافية بمعنى {ما} و{لما} بمعنى إلّا، أي ما كلّ إلا جميع محضرون لدنيا.. وهذا مثل قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ}.
والمعنى، أنه إذا كانت القرون الكثيرة التي هلكت لم ترجع إلى الدنيا مرة أخرى. فإن لها رجعة إلى اللّه.. وحضورا بين يديه.. فكل من هلك من الناس راجع إلى اللّه، للمساءلة، والجزاء.
وفى قوله تعالى: {مُحْضَرُونَ} إشارة إلى أن هناك قوة تستدعيهم للحضور بين يدى اللّه، وأن ذلك ليس عن اختيار منهم، ولو كان ذلك كذلك لكان للكافرين وأهل الضلال مهرب إلى عالم الفناء الأبدى، حيث يذهبون ولا يعودون، كى يفلتوا من العذاب الأليم.
وإذا كان الحديث هنا عن المجرمين، فقد كان قوله: {مُحْضَرُونَ} مناسبا لحالهم، التي هم فيها، والتي يمنون النفس بأن لارجعة إلى حياة بعد الموت، كما يقولون: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [29. الأنعام].
أما إذا كان الحديث عامّا إلى الناس جميعا، مؤمنين وكافرين، فأكثر ما يجيء الحديث عن البعث بالرجعة إلى اللّه، كما يقول سبحانه: {إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى} [8: العلق].
وكما يقول سبحانه: {كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ} [93: الأنبياء].. والرجوع هنا، هو عودة إلى المبدأ الذي بدأت منه رحلة الحياة.. حيث كانت الحياة من عند اللّه، ثم رجعت إليه.
قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}.
وهذا شاهد يشهد للمكذبين بالبعث، بأنه أمر ممكن، وإن إنكارهم له يقوم على فهم خاطئ لقدرة اللّه.. فلو أنهم نظروا إلى هذه الأرض الميتة، وكيف يحيى اللّه مواتها، ويبعث فيها الحياة، ويخرج من أحشائها صورا لا حصر لها من الكائنات الحية- لو نظروا إلى هذا لرأوا أن بعث الأجساد الهامدة لا يختلف في شيء، عن بعث الحياة في الأرض الجديب.
وقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} مبتدأ وخبر، وقدم الخبر {آية} على المبتدأ {الأرض} للإلفات إليه، لأنه الآية المراد النظر في وجهها، وأصل النظم:
{والأرض الميتة آية لهم} وقوله تعالى: {أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} هو بدل من الأرض الميتة.. وهو بيان لها، يكشف عما في كيان هذه الآية التي تخرج من الأرض.. والحبّ، هو ما يخرج من نبات البرّ، والشعير والأرز، ونحوها.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ} خصت جنات النخيل والأعناب من بين أنواع الفاكهة بالذكر، لأن هاتين الشجرتين- النخلة، والكرمة- غاية ما يبلغه النبات من كمال في سلّم الترقّي.
فهما على قمة العالم النباتي، وما تحتهما تبع لهما.. وإلى هذا يشير الحديث الشريف: «أكرموا عماتكم النخل، فإنهن خلقن من طينة آدم» وهذا يعنى أن النخل قد أشرف من قمة عالم النبات على عالم الحيوان، وكاد يلامس هذا العالم، ويحسب من أفراده.. وقدم النخيل على الأعناب، لأنه أرقى درجة منه.
قوله تعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} يمكن أن تكون اللام في قوله تعالى: {لِيَأْكُلُوا} للتعليل، أي أحيينا الأرض، وأنبتنا فيها جنات من نخيل وأعناب، ليكون ذلك نعمة من نعمنا عليهم، لحفظ حياتهم، بالأكل من ثمرات هذه الجنات.
ويمكن أن تكون اللام للأمر، وفى هذا الأمر دعوة لهم إلى الأكل من تلك المائدة التي مدها اللّه للعباد، وجعل عليها ما تشتهى الأنفس من طيبات- وفى هذا الأمر إلفات لهم إلى هذا الإحسان، وذلك الفضل من اللّه، وإلى ما ينبغى للّه من شكر وحمد، وهذا مثل قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى} [53- 54: طه] والضمير في ثمره، يعود إلى النخيل، لأنه المقدم رتبة على العنب، وهو أكثر أنواعا وألوانا منه، فلا يعدو أن يكون العنب لونا من ألوان الثمر- وقوله تعالى: {وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} يمكن أن تكون الجملة معطوفة على قوله تعالى: {مِنْ ثَمَرِهِ} أي ليأكلوا من ثمره من غير صنعة، وليأكلوا ما عملته أيديهم من هذا الثمر، وصنعته.
ويمكن أن تكون الجملة حالية، والواو واو الحال، وما نافية.. ويكون المعنى، ليأكلوا من ثمر هذا الشجر، والحال أنه لم تعمله أيديهم، ولم يكن في قدرتهم أن يخرجوا شجرة منه، أو أن يصنعوا ثمرة من هذا الشجر.
وقوله تعالى: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} حثّ لهم على الشكر، وإنكار لموقفهم من هذه النعم موقف الجاحد المنكر للمنعم بها.
قوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} هو تسبيح بحمد اللّه، وتنزيه له عن الشريك والولد، وتمجيد لجلاله وقدرته.. وهذا التسبيح والحمد، بلسان الوجود كله. وأنه إذا خرست ألسنة الضالين والمكذبين أن يسبحوا بحمد اللّه، وأن ينزهوه ويمجدوه، فإن الوجود كلّه لسان تسبيح، وتنزيه، وتمجيد للّه رب العالمين: {الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} فالمخلوقات كلها من أزواج، هي الذكر والأنثى.. كما في عالم الأحياء من حيوان، ونبات، وهى الشيء ومقابله، كما في عالم المعاني. كالصدق والكذب، والحق والباطل، والإيمان والكفر، والضلال والهدى.. وقد تحدثنا عن ذلك في غير موضع من قبل.
قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ} أي والليل آية لهم.. وقوله تعالى: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ} جملة حاليّة من الليل.
وسلخ النهار من الليل، كشطه عنه، وإزالة القشرة النورانية التي تكسوه، كما يكسو الجلد الحيوان.. فإذا سلخت هذه القشرة النورانية عن كيان الكائنات، سادها الظلام.
وفى قوله تعالى: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ} إشارة إلى حركة انسحاب النور، بحركة الأرض، ودورانها حول الشمس، فينسلخ النور شيئا فشيئا عن الأماكن التي تطلع عليها الشمس، وذلك كما يسلخ الجلد عن الحيوان، شيئا فشيئا.. لا دفعة واحدة.
وفى قوله تعالى: {فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ} إشارة إلى أن كل إنسان يكتسى من النور حلة، فإذا سلخت عنه صار جسما معتما مظلما، وأصبح قطعة من هذا الظلام، تجتمع قطعه بعضها إلى بعض، فإذا هي الليل.
قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي وآية لهم الشمس.. فهذه الشمس تسير في مدار محدود لها، وتتحرك في فلك لا تتعداه ولا تخرج عنه.. وذلك بتقدير {العزيز} ذى العزة والسلطان {العليم} الذي تجرى أحكامه ومقاديره بعلم نافذ إلى كل شيء، متمكن من كل كبيرة وصغيرة في هذا الوجود.
وجريان الشمس، هو حركتها في فلكها المرسوم لها. وهى تقطع دورة هذا الفلك في سنة كاملة، وفى سرعة مذهلة.
قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} أي أن القمر يأخذ كل ليلة منزلا من الأرض، على مدى شهر قمرى، ففى أوسط منازله يبدو قمرا منيرا، يغمر نور الشمس وجهه كله المواجه للأرض، المتوسطة بينه وبين الشمس، فيرى بدرا كاملا، ثم يرجع إلى الوراء منزلة كل ليلة، وذلك لبطء دورانه عن دوران الأرض، فيقلّ مع كل ليلة أو منزلة، الوجه المقابل منه للشمس، ويظل يتناقص شيئا فشيئا مدة نصف شهر قمرى، حتى يكون وجهه المواجه للأرض متوسطا بين الأرض والشمس، وهنا يكون وجهه المواجه للشمس مضيئا بضوئها، على حين يكون وجهه المواجه للأرض معتما، فإذا نزل منزلته في آخر ليلة لم ير من وجهه شيء، وسمى محاقا، لأن نوره الذي كان يبدو منه قد محق.. ثم يبدأ يولد من جديد.. فإذا كانت الليلة الأولى أو المنزلة الأولى لمولده، لم ير منه إلا قوس صغير، أشبه بقلامة الظّفر، ويسمى هلالا، غائرا في الشفق، فيختلط الضوء القليل الذي يبدو منه بحمرة الشفق، فيكون له تلك الصورة التي صورها له القرآن الكريم أدق تصوير وأروعه، حين شبهه بالعرجون القديم.
والعرجون، هو عذق النخلة، الذي يحمل النمر، ومنه تتدلى عناقيد النمر، ولونه أصفر، فإذا جفّ، وطال عليه الزمن تقوس شكله وصار لونه ضاربا إلى الحمرة الداكنة.. وهذه التحركات والتغيرات التي تظهر على وجه القمر ليلة بعد ليلة، جديرة بأن تستثير التفكير والتأمل، وأن تدعو العقل إلى النظر فيما وراء هذه المنظر الظاهر للقمر، إلى وضعه في المجموعة الشمسية، وإلى صلته بالأرض، وإلى إمكان الوصول إليه، ولو على سبيل الفرض أولا، ثم اتخاذ الأسباب التي يمكن تحقيق هذا الفرض بها.. إن الملاحظة للشيء، هي الطريق الطبيعي للكشف عن حقيقته.. وليس مثل هذا العرض الذي عرضه القرآن الكريم للقمر داعية إلى الملاحظة والتأمل، لو أن ذلك وجد همما متطلعة، وعزائم جادة..!!
قوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي أن من قدرة اللّه سبحانه وتعالى، ومن إحكام علمه، أن أجرى هذه العوالم بعلمه، وسخّرها بقدرته، وأقامها على نظام محكم، وأجراها في مجار لا تتعداها.. فلا يصطدم بعضها ببعض، ولا يأخذ بعضها من بعض وضعا غير الذي أقامه اللّه فيه.. فلا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر. فهى مع سرعتها المذهلة، التي تبلغ ألوف المرّات بالنسبة لسرعة القمر فإنها لا تدركه.
فهى لها فلك تدور فيه، كما للقمر فلكه الذي يدور فيه.
وكما أن الشمس لا تدرك القمر، كذلك الليل لا يسبق النهار، إنهما يجريان بحيث يتبع أحدهما الآخر، دون أن يسبقه.. {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}،.
وجعل الليل وراء النهار، لأن النهار أسبق من الليل هي دورة الأرض حول نفسها من الغرب إلى الشرق.. فالأرض في دورانها حول نفسها من الغرب إلى الشرق، إنما تجرى نحو النور، ومن وراء النور الظلام.. فالنور دائما أمام الظلام، وهما معا في حركة وجريان. فالآية الكريمة تشير إلى حركة الأرض وإلى دورانها حول نفسها من الغرب إلى الشرق.
واستعمل مع هذه العوالم ضمير العقلاء- إشارة إلى هذا النظام المحكم الممسك بها، والذي يقيمها على طريق مستقيم، كما يقيم العقل السليم صاحبه على طريق مستقيم.
قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}.
أي ومن آياتنا التي نعرضها على هؤلاء المشركين، والتي تحمل إليهم الدلائل على قدرتنا، وإحساننا- أننا {حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}.
والفلك. يطلق على الواحد والجمع من السفن، قال تعالى: {فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا}.
فهى هنا سفينة واحدة، وقال تعالى: {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} وهى هنا جمع.. والمراد بها في الآية الجمع كذلك، لأنه وصف بمذكر، وهوقوله تعالى: {الْمَشْحُونِ}، وعاد عليها الضمير كذلك مذكرا في قوله تعالى: {وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ}.
فعومل بهذا معاملة الجنس.. والمشحون: الممتلئ.
والمراد بالذرية: الأبناء، وهى، تجمع على ذرارى، وذريات، وأصلها من الذرء، وهو إظهار الشيء، يقال ذرأ اللّه الخلق، أي أوجد أشخاصهم، والذرأة بياض الشعر.. وفى الإشارة إلى حمل ذرياتهم دون حمل آبائهم إلفات إلى ما تحمل الفلك لهم من فلذات أكباد، ونفائس أموال وأمتعة، فتحفظها، وتصل بها إلى غايتها.. وفى هذا ما يريهم فضل اللّه عليهم، وإحسانه بهم، فقد لا يرى الإنسان فضل النعمة، ولا يقدرها قدرها إذا هي لبسته هو، فإذا رآها في غيره عرف لها قدرها، وذكر فضلها.
قوله تعالى: {وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ} معطوف على قوله تعالى: {حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي وآية لهم أنا خلقنا لهم من مثل هذا الفلك، مراكب يركبونها في البر، وهى الإبل التي تسمى سفائن الصحراء، والخيل، والبغال والحمير، وغيرها مما يركب، ويحمل عليه.
قوله تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ}.
أي أنه إذا كان من قدرة اللّه أن سخّر الفلك لتجرى في البحر بأمره، فلا يغرق راكبوهم فإن من قدرته سبحانه أن يغرق هذه السفن، بمن فيها من أولاد وأموال، فلا يجدون من يسمع لهم صراخا، أو يستجيب لهم، أو يقدر على إنقاذهم إن سمع واستجاب.. فهم هلكى لا محالة، إلّا أن تتداركهم رحمة اللّه، وإلا أن تكون لهم بقية من أجل.
فقوله تعالى: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ} استثناء من قوله تعالى: {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} أي لا ينقذهم منقذ أبدا إلا رحمة اللّه، وما لهم من أجل لم ينته بعد.